ذا فويس كيدز … أوقفوا هولوكوست الأطفال

لن تتوقف التجارة والرغبة في الربح عند حد، ولن يكون لها سقف أو خط رجعة، فكلما ظننا أن المتاجرة بأشياء كنا نظنها غير قابلة للبيع انتهت، أو اقتربت من خط النهاية، نكتشف أن آفاقا جديدة رحبة تُفتح وتمتد أمام تلك الآلة الجهنمية التي لا ترتوي تروسها سوى بالأوراق المالية الملونة، حتى لو كانت مغموسة بدماء بريئة أو مشاعر مقدسة.

منذ عدة سنوات ظهرت نوعية جديدة من البرامج الترفيهية، تقوم على فكرة المسابقات والتنافس بين المشاركين، وبالطبع يقدم منتجوها مواد ترفيهية ممتعة لجذب أكبر شريحة من المتابعين، وبعد تحقيق هذا الهدف، وما أسهل تحقيقه، نصل لمرحلة يكون التنافس فيه بلغ درجة عالية، سواء لارتباط المشاهدين نفسيا وعاطفيا بالمتسابقين، أو باللعب على نزعات وطنية، وهنا تبدأ مرحلة تشبه ما كنا نشاهده في الأفلام القديمة، عندما تبدأ راقصة المولد في “لم النقوط”، تماما نفس الفلسفة، لكن بطرق جديدة تناسب العصر.

تنوعت الأشكال بين الرقص والغناء والتمثيل والطبيخ والشعر والمصارعة وكل ما يمكن أن يخطر على بالك، إلى أن وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام مرحلة التلاعب بالطفولة والمتاجرة ببراءة مشاعرها بشكل غير إنساني، تحت مسمى اكتشاف مواهب الأطفال الغنائية!

سؤال ليس بريئا: إذا كانت برامج اكتشاف المواهب الكبيرة الناضجة لم يقدم أو يتبق منه موهبة واحدة حقيقية، وكل ما تخلف عنها ملايين في جيوب المنتجين، ومشاركين حققوا بعض الشهرة، نتيجة تواجدهم لساعات طويلة على الشاشات، يقتاتون على الـ”لايك” والـ”شير” على مواقع التواصل الاجتماعي ومعظمها مدفوع مسبقا؟

فأية مواهب تلك التي تبحثون عنها في طفل لم ينضج لا فسيولوجيا ولا نفسيا؟! أي غناء هذا تبحثون عنه بين أطفال لم يكتمل جهازهم الصوتي بعد، ولا تزال حناجرهم وأحبالهم الصوتية في مرحلة التكوين؟!

أتذكر أنه في بداية التسعينيات انتشرت ظاهرة غناء الأطفال، وتقديمهم بشكل احترافي وتسجيل ألبومات لهم -شرائط كاسيت بلغة تلك الأيام- وبالفعل انتشرت الظاهر، التي كانت تقدم الطفل بصفته نجما مطربا له ألبوم بالأسواق وبوسترات وإعلانات بالتليفزيون، ورغم ورغم أنهم جميعا –باستثناء واحد فقط- لم يكملوا أكثر من عام أو اثنين في أفضل حال، واختفوا نهائيا لسبب واحد فقط، أنهم كبروا.

الشيء الإيجابي في تجربة التسعينيات أنها لم تكن تجرى هذا السباق الرهيب بين أطفال أبرياء يقفون أمام لجنة ينتظرون إشارة منها ليدخلوا الجنة (التي يظنونها جنة)، 30 ثانية يعتصر فيها قلب وكيان الطفل، يرتعش صوتا وجسدا في انتظار ضغطة على زر (متفق عليها مسبقا)، تلقي له طوق النجاة، أو تمر الثواني ثقيلة دون أن يلتفت له أحد، فينهار مع تجربة حكمت عليه حُكماً ظالماً بالفشل.

والمتابع للبرنامج يعرف كم مرة غطت ارتعاشات صوت الطفل على أدائه الجميل، كم مرة انهار أطفال بكاءً، سواء بعد رفضهم وأحيانا بعد قبولهم، بسبب الضغط النفسي والعصبي الذي يتعرضون له.

الحقيقة العلمية التي لا خلاف عليها أن الأطفال (بنات أو ذكور) يتغير صوتهم 180 درجة بعد مرحلة البلوغ، سواء رفعا ونعومة للبنات، أو غلظة وخشونة للذكور، فليخبرني أحد إذن ما المنتظر من وراء هذا البرنامج القاتل المسمى (ذا فويس كيدز).

ولأننا اتفقنا على أن المسألة مجرد “بيزنيس” وطبيعي أن يبحث “التاجر” عن وسيلة للربح، فإن المسئولية الحقيقية تقع على أسرة هؤلاء الأطفال، لا تنجرفوا وراء شهوات رغبة في الظهور، فتلك البرامج لا تصنع من أطفالكم نجوما حقيقيون، ولو تريدون تشجيع أطفالكم على هواياتهم، فليكن في ورش تدريب أو بدعوتهم للغناء أمام الأهل والأصدقاء، فبهذه الطريقة ستضمن دعما إيجابيا حقيقيا لطفلك، دون تعريضهم للحرق في “هولوكوست” البيزنيس والشهرة الكاذبة.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.