شباب 86 كتبه جيهان جمال

قصة قصيرة ..
شباب ٨٦
قد تفرض عليك تداعيات تقلبات البشر أن تأخذ لنفسك مقعداً بين .. بين

بمعني أنك تستريح جداً وأنت تُصاحب هدوئك المُفتقد وأحياناً يستهويك أن تُطبطب علي روحك في روعة حضرة الغياب .

فتري كل الأشياء علي حقيقتها ، وأحيانا أخري تضطرك الظروف للخروج من شرنقة سلامك النفسيى لتفتح زاوية قلبك ومداد روحك غالباً لمن يستحق وفقط !

ديسمبر الماضي ..

وقت الغروب .. ألمح سيدة تهذي بكلمات لا أفهمها ، وملامح وجهها مازالت تحمل بعض من إشراقة شمس تغيب .
في يدها حقيبة نصفها ملقي علي الأرض والنصف الأخر لم يزل بيدها !

تلهث وراء شيئ يبدو أنها إفتقدته وسط النجيل الاخضر الذي علي جانبي مدخل العمارة التي أقطن بها .

إقتربت منها أنا و ابنتى رغم تعجلنا !
فقد كنا علي موعد هام للذهاب للطبيب وموعدنا قد اقترب جدا .

لكنا لا نستطيع أن نتركها بتلك الحالة ! إقتربنا منها لنجدها سيدة مُسنة تبكي بهدوء تارة ثم تثور علي نفسها تارة أخرى !

لقد فقدت مفتاح شقتها .. سقط منها لاتدرى أين ؟!
فقلت لها إهدئي .
فثارت في تكتم لطيف .

وألقت بحقيبتها علي الأرض .. وطالبتني أن أفتش عن المفتاح داخل الحقيبة !

وقالت أن الطائرة ستقلع بها إلي أمريكا فجرًا .
وكل شئ داخل الشقة .. وإبنها لن يحضر ليصطحبها للمطار سوى علي موعد الطائرة !

تألمت للموقف الذى وضعتها فيه الظروف .. ثم إندهشت وأنا أرى أمامي سيدة عجوز لكن وجهها يخبرك أن الجمال لايمكن له أبدا أن يشيخ !

ووجدتنى أنا و خيالي المصحوب بالدهشة ذائبين في هذا الجمال الذي يأبي أن يقال عنه أنه كان .. أو أنه وليٓ !

ورغم إنشغالي بموعد الطبيب الهام .. وإنشغالي بالبحث الجاد في حقيبتها عن المفتاح .
ثم إنشغالي بلملمة نقودها التي طرحتها أرضاً .
ثم لملمة مشاعري للإحتفاظ بهدوئي أثناء نحيبها بدموع تدغدغ معظم كلماتها .. والا يلملمها سوي تلك الجملة المحملة بحروف يحرقها الندم لأفيق أنا علي صوتها الوديع وهى تقول

ياريتني ماروحت للكوافير .
فيأسرنى الأعجاب بها أكثر دونما إفصاح !
ثم داعبتها لتهدأ .

تأتي نور بالمفتاح .. الغالية نور إبنتي .. ذهبت لتفتش عن المفتاح فوضعه الله في طريقها .. وإذ بالجميلة صاحبة المفتاح تهدأ .

تبتسم . وتشكرنا .

وأنا لا يطاوعني قلبي علي تركها في تلك الحالة ولن أقدر لظروفي المتعجلة أن أدخلها منزلها . فتطوعت كعادتي ووجدت إنسانيتي تطرق جرس شقة مجاورة لها .
وأستأذن صاحبتها التى وجدتها مندهشة جداً .. فما كان منى غير الإعتذار لتطفلي الواجب إنسانياً أن ترافقها إلي أن تهدأ ..!

ومضيت أنا ، ونور .. لنلحق بموعد الطبيب .. وظللت طيلة أربعة أشهر وأثناء خروجاتي القليلة جداً .. وقبل أن أستقل السيارة انظر إلي حديقتها ، وشقتها .. وقد تركت كل شيئ كما هو وكأنها داخل الشقة !

حتى قارب غيابها على شهرين .. ثم رأيت ذات يوم شابين بالحديقة .. وسمعت صوتها فعرفت أنها عادت ..
لكني متحرجة أن أقتحم خصوصيتها.. ظناً مني أنهم أولادها حتي الإسبوع الأول من رمضان الكريم .

خرجنا لتناول الطعام خارج المنزل .. وفي أثناء العودة .. وجدتها تقف علي مدخل العمارة ملاك ترتدي الإسدال الأبيض.
مستندة علي عكازها تنتظر .. فسلمت عليها .. فردت السلام بقبلات ومحبة .. فقلت في نفسي أنها عرفتني .
لكنها فاجأتني بسؤال ..أتسكنين معنا ؟ !

فقلت أنا التي كنت معكي يوم ضياع المفتاح وهذه ” نور ” إبنتي التي أحضرته لكي . فتبسمت بوجهها الذي مازال يأبىٓ أن تتركه مساحات الجمال !
لاااااا أتذكر أي شيئ .. أنا ذاهبة لصلاة التراويح .. وذكرت إسمين لرجل وإمرأة نسيتهم انا بعد لحظات .

ثم إسترسلت هي بالحديث هم جيران بالعمارة المجاورة لايذهبون لصلاة التراويح دوني !

وهنا إستوقفني ماصرنا إليه جميعاً .
أننا في زمن البعيد هو القريب !

وأن روعة التواجد لبعض البشر في حضرة الغياب رُبما صارت أرقي وأنقي !

مازالت الجميلة شباب ٨٦ مسترسلة بالحديث !
وتقول : وليد إبني سافر لشغله وحياته .
ودونما أجرحها وأسأل عن أشياء لا دخل لي فيها فهمت أيضاً أننا في زمن الأنانية المفرطة !
فودعتها .

وقبلناها أنا ونور ..
وهي تقول بمنتهي البساطة والطيبة التي إندثرت ( إبئوا إسألوا عليا ياولاد )
فوعدتها !

ثم مع ثاني خروجة لى في رمضان .. وأثناء نزولى .. إذ بى أدق عليها الجرس .

ففتحت مبتسمة إنها تعرفني هذه المرة !
ثم تلح عليا بالدخول .. وتطلب مني أن أتحمل ضيق مدخل الباب ، وتعتذر لأنها كانت تريد أن تغلق هذا الباب بالثلاجة وتكتفي بباب الحديقة !
فقلت لها وأنا أرى الثلاجة كادت أن تغلق الباب بالفعل ..
أساعدك .
فقالت : لا شكراً هاغير رأيي وأرجعه تانى
عشان تنزلي تقعدى معايا ..
فا ابتسمت ..
وداخلي إندهاشة ..

كيف لها بالمقدرة علي تحريك الثلاجة كل تلك المسافة .. ؟!
وأنا علي يقين أنها قد شغلت معظم ساعات يومها المتوقفة عن الحياة لتحريك تلك الثلاجة ..! ومددت يدي بصعوبة وأعطيتها طبق يذكرها با أيام الجيرة التي افتقدناها جميعا ، والتي من المؤكد أنها كانت تجد فيها من يعينها علي تحريك الثلاجة !

ففرحت ثم قالت إنتي إسمك إيه فقلت لها ( چيهان ) وإنصرفت من علي الباب كي ألحق بموعدي ونسيت أن أسألها عن إسمها ! الأن فقط تذكرت أنه يجب أن أعرفه ..!

بعد أسبوع أخر ..

وأثناء نزولي قبل الإفطار للحاق بالفطور عند إبني .. وجدتها فاتحة باب شقتها تلك المرة هى تعرفنى بالتأكيد .. جميلة كما هي .. ترتدي سويت شيرت وبنطلون وتستوقفني ( چيهان ) فا أُقبلها .

فتبتسم وتقول سألت عنك وقلت .. ماتعرفوش چيهان جت جابتلي طبق فكرني بأيام زمان ! لكن من ساعتها ماشوفتهاش .. وحتي ماعرفش هي بالدور الكام .. ماحدش عرف !

ثم استرسلت .. واقفة مستنية النقاش عايزة أبيض أوضة النوم .
فا ابتسمت أكثر من روعة إحساسها بألوان الحياة .. وهممت بوداعها وأنا مازلت واقفة علي الباب .
وهي تُصر أن أدخل.. فا أعتذر أنا .

ثم أحييها وأنصرف .. ويصحبني التفاؤل المحمل بالكثير من الإعجاب عن تلك الجميلة التي تجاوزت كما أخبرتني ٨٦ عام ومازالت تمتلك إحساس رائع للعزف علي شجن الأيام والإقبال علي الحياة وطلاء حجرة نومها
أعرف أنها يصاحبها الألم بحكم السن ! ويصحبها الأسي بحكم ظروف وحدتها !

لكنها لا تعلم أني مثلها محبة لألوان الحياة مهما بالغت الأيام في قتامتها !
ولا تعلم أنني منذ صغرى .. وأنا أحب صحبة الكبار .
وأنا الأن علي العتبة الثانية للخمسين من عمري !

تذكرت أيامي الوردية من عام ٨٦ وكأن هذا الرقم ( ٨٦ ) بمثابة خيط رفيع يربطني بها ..أو سر يشدني لذكريات شبابي الذي مازال يحتل مساحات بالقلب .. وأيام العُمر . وكلي أمل لو كتب الله لي العُمر أن أصير مثلها شباب ٨٦ .

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.