“كلهن أمام التحرش سواء” كتبه غادة حامد

شاءت الصدفة و أنا أستمع إلى حلقات البرنامج الأمريكي الشهير TED أن تقع أمام عيناي عنوانين مثيرين لحلقتين موضوعهما عن التحرش،  أثاروا فضولي في أن أعرف هل تعاني النساء في كل أنحاء العالم مثلنا ، في الشرق الأوسط، من التحرش ؟ و كيف يرونه و ماذا يقترحون حلولا له؟

و لما كانت ملقية الحوار الأول سيدة  أوروبية  يزيد عمرها عن الستين بقليل ؛ فقد كانت تروي ما قصته عليها سيدات و بنات أخريات ، ضمن نطاق عملها في أبحاث المرأة وكان عنوان هذه الحلقة هو (لماذا لا تبلغ المتحرشات عما حدث لهن ؟)  والغريب في الأمر أنها قالت بوضوح أن أهم الأسباب التي تجعل الفتاة أو السيدة لا تحكي عن أي واقعة تحرش بها هو أن  الضحية تعرف جيدا أن المجتمع سينقلب عليها و يحاصرها بالشك فيها بإثارة تساؤلات مثل ( هل كان هذا تحرشا رغم أنفها ؟ أم أغرت الضحية المتحرش؟ هل تروي وقائع القصة كاملة؟ هل تخفي منها أجزاءا؟ ما الذي ذهب بها الى هناك؟ مالذي يدفعه للتحرش بها؟ هل تريد الضحية تحقيق مكسبا او مالا من هذا الادعاء؟) كلها أسئلة تراها  الضحية في أعين المجتمع  القريب منها والبعيد ، الصديق والعدو ، الأخ و الأخت و الزوج و العم و بنات العم و الجيران و محقق الشرطة و زملاء العمل و غيرهم الكثير ممن يعرف القصة ، تلك  الشكوك التي تلمع في أعين الجميع سواء نطقت بها ألسنتهم أم لم تنطق .

اذن  قد تخسر الضحية أصدقائها، قد تخسر عملها و احترامها في أعين الاخرين اذا ما بلغت او قصت وقائع عملية تحرش أو اغتصاب مرت بها!

و المتحرش عادة ما يعرف جيدا هذه السيكولوجية المجتمعية و يعتمد عليها ؛ فلا أحد يسرق في النور ، و السارق يجتهد في ألا يترك أثرا خلف جريمته ، و هذا نفس مسلك المتحرش وهو ما يضع الضحية في موقف صعب لإثبات التهمة عليه ! 

ولا أخفي عليكم كم كانت دهشتي  عندما اكتشفت أن  نفس الأفكار التي تدور في أذهان الأفراد في  مجتمعاتنا  الشرقية، هي بعينها تدور في ذهن الأشخاص في المجتمع المتقدم  حول قضية تخص المرأة ، و كنت أحسبهم أكثر تقدما في هذا الصدد منا !

انه للأسف ظلم بين ، بل قهر تعاني منه ضحية التحرش اضافة الى الأذى والألم النفسي اللذين تشعر بهما نتيجة الواقعة ذاتها . فهل تتفق المجتمعات إذن علي المرأة!

أما الحوار الثاني فكان لملكة سابقة من ملكات جمال أمريكا ، كانت قد ادعت  تحرش الرئيس الأمريكي الحالي ترامب بها. و كان حوارها بعنوان (كيف نوقف التحرش بالنساء ، خاصة في  مجال العمل ). و تشير فيه المتحدثة  الى احصائية تقول أن أكثر من ٧٠ ٪؜ من ضحايا التحرش في العمل لا يبلغن عن هذا التحرش ! و تخص الإحصائية هنا التحرش أثناء العمل من المديرين أو من ذوي  السلطة علي من هم أقل منهم منصبا . و تعرضت في خطابها إلى الآثار النفسية السلبية للضحية و كيف  قد يقهر المتحرش ضحيته  بأن يجبرها علي فعل أشياء تنتهك كرامتها واحترامها لذاتها ارضاءا لذاته وشهواته ، و كيف تفقد الضحية كل ثقتها في نفسها نتيجة هذا العمل المشين

و صدقت المتحدثة إذ قالت إن التحرش ربما هو أحد القضايا التي لا يتخللها أي  عنصرية أبدا ؛ فلا يفرق المتحرش عادة  بين من ترتدي  فستانا قصيرا ومن ترتدي ملابس محتشمة ، بين البيضاء والسوداء ، الشابة و الكبيرة في العمر، فالتحرش ينال منا جميعا  بلا  عنصرية !

و هنا اندهش للمرة الثانية من فكرة عدم تمييز المتحرش بشخصية الضحية في كل مكان في العالم  ؛ فهو لا يهتم ان تكون الضحية ذات أنوثة طاغية أو طفلة صغيرة لم تبلغ الحلم ، لا يهم إن كانت جميلة أو قبيحة ، شخصية مرموقة أو خادمة في المنزل ، سوداء أو بيضاء، انه يسرق ليسد شهوته فقط ليس الا!

وإذا كان التحرش في حد ذاته له آثار جسيمة علي نفسية الضحية؛ تشعرها أنها تعيش في عالم الغاب ، مطمع لمن يستطيع ان ينهش من لحمها، يسرق منها لحظات قصيرة يستمتع هو فيها و تتألم هي في نفس الوقت . فهي تشعر بالقهر لأنها لا تجرؤ علي أن تبلغ أحدا بما حدث خوفا من المجتمع لا خوفا من المفترس ، زد علي ذلك إذا كان هذا التحرش في مكان عملها ، من أحد رؤسائها الذين عليها أن تطيعه و إلا .. و كم إلا هنا الآن ؛ و إلا يتبلى عليها، وإلا يقطع عيشها، و إلا يمارس أي سطوة عليها …

و أود ان نتذكر سويا أن نسبة كبيرة من السيدات في مجتمعاتنا هن نساء معيلات ؛ أي هن المصدر الرئيسي الأول للإنفاق علي أسرهم أو يساعدن في الإنفاق علي البيت بنسبة النصف تقريبا ! مما يضاعف من حجم المشكلة عند المرأة وتتعقد لتصبح نفسية، اجتماعية، واقتصادية أيضا!

اما الحلول التي اقترحتها المتحدثة  الثانية ، ملكة الجمال السابقة، فهي ثلاث حلول تشبه إلى حد كبير ما نطالب نحن به في دول العالم الثالث ؛ أولا أن يتم تغيير القانون حتي يساعد الضحية علي إثبات الجريمة ، ثانيا أن يقف المجتمع  برجاله ونسائه إلى جانب الضحية فيثق بها و يساندها بدلا من ان يخذلها و يزيد من قهرها  إذا لجأت لهم ، و اخيرا نادت الضحايا أن يضربن مثلا في الشجاعة للجيل الجديد لمواجهة هذا السلوك الخسيس بقوة والإبلاغ عن كل متحرش ،حتى تتغير ثقافة المجتمع و يتغير سلوك جيل جديد كما فعلت هي ، المتحدثة ، وضربت مثلا لابنتها عندما تحدثت عن واقعة تحرش الرئيس الأمريكي  ترامب بها سابقا!

يبدو أن صيحة ( يا نساء العالم اتحدوا ) هنا في قضية يواجهها نساء العالم كله من لصوص الشرف ، سارقي الكرامة ، مختلسي المتعة ، لن يوقفهم الا هبة قوية من رجال و نساء العالم كلهم ، كما يقفون في مواجهة الإرهابيين والقتلة  الذين يزهقون أرواح الأبرياء بلا ذنب ، فلا فرق بين إزهاق روح تنتهي بالوفاة و إزهاق روح لتنتهي بالألم و العذاب والفضيحة  علي مدى الحياة!

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.